مقدمة:

قبل حدوث التحول المفصلي في فرنسا لم يكن المخرجون يتمتعون بالأهمية التي يتربعون على عرشها في يومنا هذا، حيث كان للمنتجين ونجوم الشاشة (الممثلون) في هوليود سابقاً اليد العليا والنصيب الأكبر من الأهمية والشهرة بالنسبة للأفلام التي صنعوها، وبالتالي لم يكن ليتحدث الناس عن المخرجين وكتاب السيناريو وإنما كانت صناعة الأفلام للمنتجين السينمائيين دون غيرهم. لكن مع بداية أفلام الموجة الجديدة في فرنسا بدأت مكانة المخرج بالازدهار، ولاسيما مع بدأ العديد من الكتاب والمخرجين بصناعة أفلامهم الخاصة بميزانية بسيطة بعيداً عن المنتجين، أصبح المخرج يتربع على قمة هرم صناعة السينما.

فكان أن ظهر عدة أنواع من المخرجين منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا منهم: مخرجون يسهل فهمهم، ومخرجون يتمتعون بوعي ذاتي، ومخرجون ديكتاتوريون، ومخرجون حياديون، ومخرجون بأجندات سياسية، ومخرجون تجاريون بشكل بحت وغاياتهم استغلالية. هذه الأنواع ربما تعكس الشكل العام لأنواع المخرجين وفقاً لتوجهاتهم وأعمالهم التي يسعون ورائها، ولا يعنينا في هذا المقال، وإنما سنركز على أنواع المخرجين من حيث كفاءته الإخراجية وعلاقته بالنص وكيف يتعامل مع قصته وفيلمه.

يركز هذا المقال على ثلاثة أنواع من المخرجين، يختلفون اختلافاً كلياً عما ذكرناه في المقدمة، حيث يعتمد هذا التصنيف على نوع المخرج من حيث قدراته الفكرية والإبداعية وليس حول اهتماماته الشخصية أو انتماءاته أو تفضيلاته، هل هذا المخرج قادراً على صياغة قصة واضحة وعميقة في المعنى وتحتوي على دلالات وإشارات ورموز؛ توحي للمشاهد برسائل يريد المخرج إيصالها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وتضفي نوع من المتعة الوجدانية المؤثرة التي يبحث عنها المتفرج في الصالات السينمائية، هنالك ست خيارات تجعلنا نقيم عمل المخرج:

  • بساطة السرد أو تعقيده
  • طريقة وضع الشخصيات ورسم معالمها
  • معالجة المخرج للنص (بطريقة حِرفية أم سطحية)
  • عنصر المفاجأة
  • وجهة نظر المخرج
  • المكان الذي يختاره المخرج لوضع الكاميرا

لنقل إن المخرج الكُفُؤ ينقل لنا جانباً واحداً من السرد (السيناريو)، بينما ينقل المخرج الجيد رؤية مركبة ومتعددة عن السرد، في حين يعمل المخرج البارع على تحويل السرد إلى موقف مفاجئ تنكشف عنده حقائق وتطورات جديدة. ومع تحدث الكثيرين على أن الإخراج ليس له قواعد لتأطيره، وإنما يعتمد على الحدس والإلهام، لكن ثمة رأي معاكس للرأي السابق وهو بأن وعي المخرج ومدى عمق فهمه لفكرة المخرج وكيفية تطبيقها ستكون النتيجة أعمق وأقوى.

المخرج الكُفُؤ

يتصف المخرج الكفؤ بتفسيره المباشر لنص السيناريو دون أن يتطرق إلى اكتشاف المعنى الضمني الذي يحتوي عليه النص، وينصرف إلى الاهتمام بلقطات الكاميرا والمونتاج وربما أداء الممثلين، ما يجعلنا نطلق عليه المخرج الفني أو المخرج التقني كما يقول كين دانسيجر “كفؤ تقنياً، خامل إبداعياً”. فهو يسرد لنا قصة واضحة أو ربما مؤثرة، ولكن سرد الفيلم يكون بسيطاً وذو جانب واحد لا يرتقي إلى المتعة السينمائية التي ينتظرها الجمهور وهي رؤية قصة خارجة عن المألوف غير مكررة في الواقع الذي يعيشون فيه. فالمخرج الكفؤ يتصف بالكفاءة التقنية وينتج لقطات مفيدة لعملية مونتاج واضحة، وأداء تمثيلي مقنع ضمن الحدود المعقولة التي يرسمها.

فيما يلي بعض الأمثلة على هذا النوع من المخرجيين:

  • أنطوان فوكوا (الملك آرثر 2004)

يفتقر الفيلم إلى رؤية فنية واضحة، يفتقر أيضاً وجهة النظر فالحبكات لا تفاجئنا أو تثيرنا كجمهور مشاهدين، الصراع بين الخير والشر وكالعادة انتصار الخير في النهاية، لكن براعة فوكوا تظهر في الصور الفنية ولقطاته واختياره للزوايا وأماكن وضع الكاميرا التي بثت الحياة في النص (لقطات بعيدة أو لقطات قريبة جداً)، واستخدم الكاميرا المتحركة التي تعطي جمالية ساحرة للصورة ولاسيما أثناء المعارك. سيلاحظ من شاهد الفيلم أنه يفتقر إلى المعنى الضمني المبطن للنص ومنحنى الشخصية المركب.

  • سايمون وينسر (فرقة الخيالة الخفيفة 1987)

سرد القصة في فيلم  وينسر سرد بسيط وغير معقد ويمكن أن يكون مكرر بمعنى يمكن توقعه لا يحتوي على عنصر المفاجأة الذي يزيد من قيمة النص سواء في الحبكات أو من سلوك الشخصيات، كما يتبع المخرج استراتيجية غير مركبة في عرضه للأحداث، رغم وجود تحولات في السرد لكنها ليست جذرية، بمعنى أن معالجة المخرج للنص سطحية، ولا وجود لوجهة نظر واضحة للمخرج أو رأي المخرج كما يقال، لكن براعة وينسر في هذا الفيلم تكمن في لقطاته التي تحتوي على دلالات مطابقة للسرد، فيستخدم اللقطات البعيدة جداً للفرقة عند الغروب أو عند الفجر للدلالة على الشجاعة ووحدة الصف، ويظهر بطولية شخصياته بتصويرهم من زاوية منخفضة، وينتقل إلى لقطات قريبة جداً للعدو، يشعرنا هذا الانتقال السريع بين اللقطات في المونتاج بالحس الرومانسي الذي يسعى إليه المخرج.

كل ذلك لا يعني أن المخرجيين الكفؤ غير بارعين في اختياراتهم أو أفلامهم، على العكس هناك من حاز منهم على الأوسكار كـ روب مارشال عن فيلم شيكاغو 2002، فالفكرة هي من هو الأنجح في تقديم تجربة مميزة للمشاهدين، وغير عادية (كلاسيكية)، قصة تثير لدى الجمهور أحاسيسه الوجدانية وتجعله يتفاعل مع الفيلم ومع شخصياته ويدافع عنها ويتعاطف معها أو على العكس يكرهها وينبذها.

المخرج الجيد:

يقدم المخرج الجيد تجربة سينمائية مركبة وذات جوانب متعددة تنشأ من التفسير المعقد لنص السيناريو، للوصول إلى تفسير غير سطحي للقصة، كأن يضع شخصية رئيسية معاصرة في فيلم كلاسيكي، ويتصف عمل المخرج هنا بأنه يستخدم استراتيجيات لتعميق المعنى العام وتعقيد السرد وإضافة معنى مبطن له، أو استخدم عنصر المفاجأة في الحبكة، وذلك من خلال السعي وراء تحقيق فكرة المخرج، وبالتالي فإن استخدام الكاميرا وتوجيه الممثلين يجب أن يدعما فكرة المخرج المتعلقة بالمعنى المبطن للنص، أو يضيفا عمقاً واسعاً للشخصية الرئيسية.

إن المستوى الجيد الذي يصل إليه المخرج يعتمد على مدى تحقيقه لفكرته، وكي يصبح جيداً لابد أن تتوافر لديه فكرة مخرج ينفذها بوساطة استخدام أدوات الإخراج (تفسير نص السيناريو – أداء الممثلين – والتصور المسبق) التي تنسجم مع اهتماماته ومهاراته. كما يتجاوز المخرج الجيد الخيارات التي يحددها المخرج الكفؤ في النقاط التالية:

  • السرد المعقد
  • طريقة وأسلوب تعيين الشخصيات: الصفات – الانفعالات س– مركبة – متطورة
  • أسلوب السرد
  • عنصر المفاجأة
  • وجهة نظر المخرج: في استخدام التعقيد في الحبكة والسرد لرفع مستوى القصة
  • وضعية الكاميرا: يتبع المخرج الكفؤ طريقة واحدة لوضعية الكاميرا (الأسلوب الرومانسي)، بينما يستخدم المخرج الجيد وضعيات كاميرا أكثر تنوعاً (التناوب بين اللقطات القريبة واللقطات البعيدة جداً)، بالإضافة إلى وضع الكاميرا بالقرب من الحدث بهدف خلق التوتر بين شخصية في المقدمة وأخرى في الخلفية.

فيما يلي مثال على هذا النوع من المخرجيين:

  • مايكل مان (الرفيق العدو 2004)

تظهر جهود المخرج مايكل في فكرة المخرج الخاصة به إلى سعيه لكشف الشخصية الحقيقية لأبطاله وغرماء أبطاله، من خلال النظر إلى الحياة كعملية اختبار، تسعى فكرة المخرج لدى مان إلى دراسة الحلول الأخلاقية الوسط لشخصياته الرئيسية، كما يؤدي جمال لقطاته البعيدة، سواء أكانت تصور الغرب الأمريكي أم كوريا أم أحد الشوارع المعاصرة، إلى تعميق الغموض الأخلاقي والمعنوي.

المخرج البارع:

يمنحنا المخرج البارع طريقة مختلفة للنظر إلى القصة العادية. ببحثه العميق عن المعنى الضمني المبطن للنص، وشغفه الاستثنائي بعمله وبشخصياته والسرد الذي يقدمه، والمفاجئات التي يصنعها في حبكاته، وإصراره على إبداء رأيه وجعله مؤثراً وفعالاً لدى الجمهور المشاهد، (يعتبر إيجاز السرد والقدرة على الحديث عن أمر ما بإسهاب في لقطة واحدة، وأن يتخذ موقفاً واضحاً حول موضوع ما أو شخصية معينه في الفيلم، جميعها أشياء تعزز الأسلوب المميز للمخرج البارع)؛ فكل ذلك عوامل مهمة تلتقي مع بعضها لتشكل فكرة المخرج الذي يبحث عن البراعة في قصته.

  • فيتوريو دي سيكا (سائق الدراجة 1948)

يستخدم رجل دراجة هوائية للذهاب إلى عمله، تتعرض هذه الدراجة للسرقة، يصبح مستقبل عائلة صاحبها معرضاً للخطر من الناحية المادية، يضطر الرجل لسرقة دراجة أخرى، يشاهد الابن كيف يتم إلقاء القبض على أبيه ويشعر بالذل نفسه الذي يشعر به الأب. يحول المخرج قصة عادية عن البقاء على قيد الحياة إلى قصة تتحدث عن الفقر والآباء والأبناء. إن فكرة الشعور بالذل بين الأب والابن يؤثر على الطفل: كيف سيكبر هذا الطفل؟ هل سيصبح سارقاً أم طبيباً؟ هل سيصبح إنساناً عطوفاً أم قاسي القلب؟ أسئلة يطرحها المخرج دي سيكا الذي حول قصته البسيطة إلى فكرة تتعلق بنا جميعاً. هذا ما يقوم به المخرج البارع عندما يستخدم أداة فكرة المخرج، ويذهب بقصته إلى أبعد تصور يمكن أن يجده، ليوجد معاني ذات بعد عميق غير سطحي.

لا يمكننا الاكتفاء بالأمثلة السابقة، لأن هناك العديد من المخرجين البارعين والتي لا تسعفنا الكلمات عن ذكرهم في هذا المقال القصير كـ ستفين سبيلبرغ – مارتن سكورسيزي – ألفريد هتشكوك – تارنتينوا – فرنسيس كوبولا – سيدني بولاك – فيدريكو فيلليني؛ والقائمة تطول، جميعهم مخرجون بارعون صنعوا أفلام رائعة أبهروا السينما بها، من خلال طرحهم أسئلة مهمة وتقديم بدائل للآراء والعادات السائدة بين الناس.

الخلاصة:

لكل مخرج فكرته الخاصة ولكل منهم أدوات وخصائص سردية يستخدمها لتحويل قصته إلى نظرة جديدة غير اعتيادية، ويختلف تصور الفكرة الخاصة به باختلاف تجاربه وثقافته ومدى معرفته بالعلوم الحياتية ومعتقداته واهتماماته، ولا يستخدم المخرجون السينمائيون كلهم مزج الأدوات للارتقاء بمستوى أعمالهم؛ في حين استخدم المخرجون المشار إليهم في المقال مزيجاً من تفسير النص وأداء الممثلين وحركة الكاميرا لإضافة جماليات فنية مميزة على أفلامهم. إن الطريق إلى الإخراج الرائع متنوع لأن اختيار مزيج محدد من الأدوات هو الذي يجعل المخرج قادراً على صياغة فكرته التي تترجم رؤيته إلى الشاشة.

في النهاية يمكنني القول أنه وبغض النظر عن السطور والمعلومات التي كتبت في هذا المقال، بإمكانك أنت كمشاهد مشاهدة الأفلام التي وردت في هذا المقال كأمثلة بشكلها التدريجي كما وردت، وستتعرف حينها ما هو الفرق بين كل نوع من أنوع المخرجين الذي تم الحديث عنهم.


المصدر: كتاب فكرة الإخراج السينمائي “كيف تصبح مخرجاً عظيماً “

تأليف كين دانسايجر

 

حسن البو حسن

 

wpChatIcon