فـكرة المخـرج

مقدمة:

يعمل المخرج على ترجمة النص إلى لقطات بصرية لتشكل قصة الفيلم، ويتعاون معه في ذات الوقت كل من الممثل والمنتج والسيناريست والمونتير ومهندس الصوت وغيرهم من الأشخاص يعملون على خط واحد نحو هدف واحد للوصول إلى النسخة النهائية للفيلم، ولا يمكن لأحد منهم أن يقل أهمية عن الآخر، يقودهم مايسترو الفيلم (المخرج) الذي يتحمل بدوره المسؤولية الكاملة عن النسخة النهائية للفيلم.

وأثناء العمل على الفيلم يحتاج المخرج إلى توجيه تركيزه إلى ثلاث مجالات يجب أن يعمل عليها لأخذ القرار النهائي فيها؛ حتى يستطيع زيادة أهمية مشروع الفيلم، وإظهار فكرته التي يعمل عليها من خلال السرد.

 أولاً: تفسير نص السيناريو

ثانياً: توجيه وأداء الممثلين

ثالثاً: حركة الكاميرا

 تعمل هذه المجالات بتناغم مع بعضها البعض لزيادة المتعة بتجربة الفيلم عند المشاهدين، ومن أجل صياغة فكرة المخرج يجب على المخرج أن يدرك سبب انجذابه إلى سيناريو معين، وأن يدون ذلك بشكل مكتوب، وأكثر ما يجذب المخرجين عادة هو شخصية ما، وغالباً ما تكون الشخصية الرئيسية، بينما ينجذب مخرجين آخرين إلى أهمية الحبكة في السرد، وينجذب آخر إلى تحدي مشروع الفيلم بحد ذاته، فكلما ازداد المشروع صعوبة ازداد تعلق المخرج بالفيلم.

 

ماهي الفكرة الرئيسية للقصة؟

كيف بإمكاننا النظر إلى الفكرة الرئيسية في ضوء خيارين متناقضين يواجهان الشخصية الرئيسية (فالحب أو المال هو الخيار الذي يواجه البطل في فيلم تايتنك)، فالفكرة الأساسية هي التي تشكل مفتاح الفيلم ومفتاح علاقتنا بالشخصية الرئيسية (البطل)، وبالتالي إن فهم هذه الفكرة والتطلع إلى استكشافها يقودونا إلى البدء بصياغة فكرة المخرج. ماهي كمية الشغف لدى المخرج نحو الفكرة الرئيسية؟ وماهي طريقته في التعبير عنها؟ وأي الطرق سيسلكها للوصول إلى الفكرة الأساسية؟ كلها أسئلة يجب على المخرج أن يجيب عليها إجابات دقيقة قبل أن يبدأ بمشروعه.

أيضاً يمكن لمنحى الشخصية أن يكون وسيلة للتعبير عن فكرة المخرج، وذلك بإضافة عنصر المفاجأة لها. ففي أغلب القصص السينمائية التي تسيّرها الشخصيات هي بالأساس قصص تعتمد على تحول الشخصية. وإن ما يكسب القصة المجتمعية العمق هو استخدام عنصر المفاجأة كأداة لتحول الشخصية في طور تحديد فكرة المخرج. مثال على ذلك: فكرة المخرج في فيلم زيت لورينزو في قوة الإرادة، بعد أن ولدت امرأة طفلها وهي في الأربعين من عمرها، وإصابته بمرض عضال. الشخصية الرئيسية هي الزوجة، أما منحنى الشخصية هو اكتشاف البطلة للأمومة في وقت متأخر من عمرها وسعادتها المطلقة بها. ومع اعتقاد الأطباء بأن الطفل سوف يموت، يزداد تمسك الأم بطفلها، وقوة الإرادة في سلوكها وسلوك زوجها هي المفاجأة التي تغيير الحبكة في النهاية وتتيح اكتشاف علاج للطفل لورينزو، ما يؤدي إلى تغير منحنى الشخصية التي عمل المخرج عليه في فكرته.

ثمة عنصر أخير يمكن أن يكون ذو أهمية عالية في تحديد فكرة المخرج وهو المعنى الضمني المبطن للنص، بمعنى يجب على المخرج أن يبحث عن جانب عميق في قصته، ويكون مختلفاً عن المعنى السطحي الذي تطرحه القصة. هذا المعنى يعتبر من أكثر الطرق وضوحاً في تعبير المخرج عن فكرته.

مثال: الطموح هو المعنى الضمني المبطن لفيلم كل شيء عن حواء الذي يتناول موضوع المسرح والنجومية، حيث يقود هذا الطموح كل شخصية من شخصيات الفيلم إلى أماكن مختلفة، استخدم المخرج هذه الفكرة ليعبر عن شعور كل شخصية بالذل والعار، فكلما زاد الطموح، زاد احتمال فقدان الكرامة.

 

تفسير نص السيناريو

الخطوة الأولى الحاسمة التي يجب على المخرج أن يتخذ القرار فيها هو قراء نص السيناريو المؤلف من فكرة أساسية، وشخصية رئيسية التي تسعى لتحقيق هدف معين، ومجموعتين من الشخصيات الثانوية التي تساعد إحداها الشخصية الرئيسية بينما تقف الأخرى موقفاً معارضاً منها. هذا هو السرد الذي يضيف إليه المخرج اهتماماته وشخصيته وتفسيره الخاص.

تخضع القصص لتفسيرات متعددة تختلف من مخرج إلى آخر، فالقرار الأول له هو تحديد ما إذا كان عليه معالجة قصة ما معالجة نفسية داخلية، أو معالجة خارجية تعتمد على أحداث تجري في العالم الخارجي. فالمعالجة الداخلية تنشغل بالجوانب النفسية المتعلقة بالشخصيات مثل الحياة الداخلية أو القيم المعنوية أو البحث عن قيم أو معانٍ أكثر عمقاً كـ (فيلم رحلة إلى إيطاليا– الفهد – قداس الأحلام)، بينما تتمثل المعالجة الخارجية بالتركيز على الجانب الظاهري والتلميح للجانب الداخلي كـ (فيلم حياة باي – الفك المفترس – لورانس العرب). ويستطيع بعض المخرجين التأكيد على الحدث الظاهري من دون التضحية بالحدث الداخلي.

أما القرار الثاني فهو الشباب والشيخوخة حيث استخدم السن لتحديد الطابع العام للقراء التفسيرية، فمن المتوقع أن تشير صفة الشباب إلى الحماس أو التفاؤل، بينما تشير الشيخوخة إلى الندم أو التأمل؛ لكن استخدام ما هو متوقع بطريقة غير متوقعة لطالما أعطى نتائج جديدة. فتفسير نص السيناريو يصبح مثير للاهتمام عندما يتم سرد القصة من وجهة نظر شخص ما، وسواء أغيرنا الوجهة من منظور الصغار إلى منظور الكبار، فثمة فرصة واضحة لتحويل سرد كئيب إلى سرد مفعم بالحيوية، أو سرد يفيض مرحاً وشباباً، فالفرصة المتاحة لمفاجأة جمهور المشاهدين في أي حالة من هاتين الحالتين تستحق استكشاف هذا الخيار بعمق أكبر. كما أن تطبيق تفسير نص السيناريو على أساس الجنسين (الرجال والنساء) يعد القرار الثالث للمخرج، لأن الرجال والنساء لا ينظرون إلى الأحداث والشخصيات بالطريقة نفسها، فسرد قصة رجل من وجهة نظر المرأة، أو قصة امرأة من وجهة نظر الرجل سيعتبر سرد مقنع ومثير للاهتمام.

 

رابعاً على المخرج أن يقرر الطابع العام للفيلم (سياسي – اجتماعي – نفسي….) فالطابع الذي يختاره المخرج هو الذي يحدد فيما إذا كان الجمهور يرى السرد كقصة عالمية أو قومية أو محلية أو شخصية، ويعتمد هذا التحديد على المنظور الذي يختاره المخرج، لأن كل واحد منها يُفرز تجربة مختلفة للسرد. كما يستطيع المخرج استخدام أنواع أخرى لتعزيز رأيه وتفسيره للنص، حيث ستوفر كل واحدة منها رقعة واسعة لتعزيز سرده للقصة، أو التوسع في احتمالات جو القصة وطابعها العام.

في النهاية يمكننا القول عندما يفسر المخرج نص السيناريو ويجد فيه فكرة، يعمل على تطويرها ويتأثر هذا التطوير بشخصية المخرج وخبراته وتجاربه في الحياة، ويعبر عنها بعد ذلك من خلال أداء الممثلين وتنظيم واختيار لقطات الكاميرا والمونتاج.  ومن الصعوبة بمكان وضع فكرة المخرج من دون الخوض عميقاً في نص السيناريو وإدراك أولوياته بصفته راوياً للقصة.

توجيه وأداء الممثل

يعتبر الممثل هو التعبير المباشر الأول لفكرة المخرج، وبالتالي فالعلاقة بينهما هي حجر البناء الأساسي، والممثل هو الخط الأمامي في أي انتاج سينمائي، وشريك مهماً في صناعة الفيلم واستخدام فكرة المخرج. ويجب على المخرج معرفة كيفية العمل والتعامل مع الممثل من أجل ابتكار الشخصيات التي من شأنها بث الحياة في فكرته. في الحقيقة ينجز المخرج نصف عمله عندما يقوم باختيار ممثلين ملائمين لمشروعه، لأن الاختيار هو التعبير الأول عن فكرته قبل بدء الإنتاج، مما يتطلب أن يكون لدى المخرج فكرة واضحة تستند إلى تفسير نص السيناريو كما سبق.

وينبغي على المخرج في اللقاء الأول مع الممثل أن يضع أمامه قائمة معايير يقيم بواسطتها ما يلي:

  • الاحترافية: الممثل يأتي للحصول على دور تمثيلي، والمخرج يجري المقابلة لتوظيف ممثل. عندما ينحرف اللقاء عن هذين الهدفين، فهذا يعني أن المخرج والممثل يراوحان في مجال غير احترافي.
  • مستوى التوتر أو الانفعال الذي يعبر عنه الممثل في موقف ما: ما مدى الانفعال الذي يستطيع الممثل التعبير عنه؟ والمقصود به اختبار التمثيل.
  • الحيوية والمرونة: السعادة والحزن والغضب والفطنة جميعها تعد جزءاً من مجال الحيوية، فهل يفرز الممثل هذا المجال من الحيوية، هل يستطيع أن يقدم أكثر من قراءة واحدة للدور.
  • الكاريزما: بريق الشخصية وجاذبيتها وهي مرتبطة بالإحساس بالصدق المتأصل والصدق العملي، فيبدو الممثل كما لو أنه يريد أن يصبح مصدر الإلهام عن شخصيته البراقة في نظر الجمهور.

سيعتقد القارئ أن المخرج يجب أن يكون حاصلاً على شهادة في علم النفس كي يتمكن من اختيار الممثلين، لكن في الحقيقة ذلك غير ضروري، لأن الشعور والإحساس بالآخرين وفهمهم لابد أن يتقنها أي مخرج.

حركة الكاميرا

من أهم الخيارات البصرية المتاحة للمخرج، والتي يبدأ بوضع ملامحها بعد تفسير النص مباشرة، فهو يحتاج إلى الاختيار بين اللقطات (العامة والقريبة) لقطات تحدد موقع الحدث، وتقدم معلومات عنه (عامة)، لقطات تقدم معلومات أكثر حميمية تفرز أحاسيس بين الشخصيات (متوسطة)، ولقطات محركة للمشاعر، وتستخدم غالباً للتأكيد الدرامي. من القرارات التي ينبغي على المخرج اعتمادها، تعيين المكان الملائم للكاميرا، فالخيارات كثيرة ولكل خيار تأثير محدد:

 

 

المحاذاة: وضع الكاميرا بمكان بعيد عن الحدث يجعل المشاهدين في موقع المراقبين فقط، ووضعها قريباً من الحدث يزيد من قوة وحميمية العلاقة مع الشخصيات والحدث، أما وضع الكاميرا في مكان يتوسط الحدث فيجعلها في موقع محايد؛ مما يجعل الجمهور دون خيار واضح، وهو خيار يلجأ المخرج له ليقدم معلومات دون أي وجهة نظر واضحة أو دون الانحياز لجهة أو شخصية محددة.

الوضعية الذاتية للكاميرا: يختار المخرج في أغلب الأحيان أطرافاً معينة ينحاز إليها ويربط مشاعرنا بشخصية ما دون غيرها، وهذا يعني استخدام الوضعية الذاتية للكاميرا، مما يجعل الكاميرا كما لو أنها شخصية رئيسية.

ارتفاع الكاميرا: مستوى منخفض تجعل المشاهد ينظر إلى الأعلى لرؤية الممثلين بوضعية البطولة، أما المستوى المرتفع فيدل على افتقاد الشخصية للسلطة أو استعبادها، والأكثر شيوعاً هو وضع الكاميرا على مستوى النظر، رغم قلة الفائدة الدرامية من هذه الوضعيات، لكنها تصبح مهمة في بعض الأحيان لتعويضها بعض اللقطات.

حركة الكاميرا: خيار هام متاح للمخرج لإثارة الاهتمام، فإذا كان التصوير يتطلب نوعاً من الثبات والاستقرار، ينبغي استخدام كاميرا مثبتة على حامل، أما إذا كانت اللقطة تتصف بالآنية، نستخدم الكاميرا المحمولة باليد من أجل توفير إحساس مشابه للحالة، وذلك بفضل الاهتزاز الخفيف الناجم عن حركة اليد، وبالتالي وضع الجمهور في مكان قريب من الحدث.

الحركة من نقطة ثابتة: الميلان من أعلى إلى أسفل أو بالعكس تفيدنا بمتابعة الحدث أو الانتقال من موقع إلى آخر، أما القطة البانورامية من اليمين إلى اليسار أو العكس وتستخدم لمتابعة حدث ما أو محاكاة حركة العين، لقطة الزوم والانتقال من زاوية عريضة إلى زاوية ضيقة من خلال العدسة وتستخدم لإبطاء إحساسنا بالزمن أو لتجنب القطع المفاجئ.

أيضاً الإضاءة من أهم الأدوات التي تحدد الإطار العام للقطة وتفيد المخرج بتنفيذ فكرته، ولا بد أن يكون للمخرج فكرة شاملة عن الجو العام المطلوب لفيلمه. تستطيع الإضاءة وصف النوايا والتنبؤ بها بسهولة، إذ يمكن استخدام الإضاءة إما لتلطيف أو زيادة حدة استجابة الجمهور إلى شخصية أو حالة ما.

إن قرار تصوير المشاهد من زوايا معينة واختيار حركات الكاميرا يعطي توجيهاً لرؤية الفيلم ومحتواه وأسلوب المخرج الذي عليه أن يدرك أهميتها لتحقيق فكرته وإنجازها.

بعد تحديد فكرة المخرج؛ ينبغي صياغة مقاربة لتوجيه الممثلين واستراتيجية لاستخدام كاميرا التصوير بما يتوافق مع فكرة المخرج التي قمنا باختيارها. ينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا أنه كلما تعددت جوانب وأوجه المقارّبة لتصبح مركبة (معقدة) وبعيدة عن البساطة؛ زاد الجانب الإبداعي وزادت متعة المشاهدة عند الجمهور.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حسن البوحسن
عن كتاب فكرة المخرج لــ كين دايسنجر
wpChatIcon